معرفة

احتفاء بمؤرخٍ يغرِّد خارج السرب!

ليلةٌ امتلأت قلوب حاضريها بذكرى مؤرخ لا يُنسى؛ شهاداتٌ تُنير سيرته، واستعادة حيّة لروحٍ جعلت التاريخ فعل حضور…

future المؤرخ الكبير والمثقف الموسوعي الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم (1942-2021)

احتفاءٌ لا يُنسى في قصر الإبداع

ثلاث ساعات تقريبًا من الحديث المتصل والذكريات الحية، والروح السمحة الطيبة التي تظلل الحضور والمكان بمسحة من الرضا والحنين والشجن! لم أكن أتوقع أن يخرج اللقاء الذي نظمه قصر الإبداع التابع لهيئة قصور الثقافة بمدينة السادس من أكتوبر، مساء الأربعاء الماضي، في الاحتفاء بالذكرى الرابعة لرحيل المؤرخ الكبير والقدير والمثقف الموسوعي الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم (1942-2021) أستاذ تاريخ العصور الوسطى ودراسات الحروب الصليبية والتاريخ المملوكي بالجامعات المصرية والعربية، أقول لم أكن أتوقع أن يكون بهذه الحرارة والحيوية والمشاعر الدافئة، وبهذا الفائض الجارف من المحبة والمعرفة والعلم والذكريات، وأن يكون بهذه الدرجة العالية وبهذا المستوى الرفيع من المداخلات والأحاديث والشهادات الشخصية والعلمية التي شكلت إضافة ممتازة لحقل المعرفة بهذا الرجل الموسوعة، هذا الرجل المؤسسة.. وأن يكون بذات الدرجة أيضًا من التفاعل والاستجابة من الحضور الكريم الذين ملأوا قاعة الندوة، ولم يوجد كرسي واحد خلا من صاحبه!

توقعي لم يكن كذلك أبدًا! أولًا توقعت ألا يزيد الحضور عن عدد أصابع اليد الواحد أو اليدين معا في أحسن الأحوال كما اعتدنا في مثل هذه المناسبات والاحتفاءات بقيمة علمية أو فكرية أو ثقافية كبرى! فوجئت بعدد من الحضور يفوق المتوقع بكثير، جاءوا فقط ليستمعوا إلى ما سيُقال عن قاسم عبده قاسم؛ منهم أصدقاء ومنهم جيران ومنهم تلاميذ الراحل أو من اتصل به بسبب علمي أو معرفي أو ثقافي أو لغير ذلك تماما.

كان من بين الحضور شباب وشابات في مقتبل العمر، استمعوا إلى مداخلات المتحدثين كاملة، ولم ينصرفوا بعد ربع ساعة أو نصف ساعة من بدء الحديث، لم يحدث هذا، ولم يبد أنهم غير مهتمين أو متابعين.. بالعكس، كانت تلتمع أعينهم بلمعة شغف واستحسان وحثّ على طلب المزيد.. وهذا كله كان جديدًا عليّ وربما كانت من المرات القليلة أو النادرة التي أشارك فيها، وأحظى بهذه الحالة الاستثنائية الفريدة!

لأكف عن الثرثرة والانخراط في الوصف الانفعالي والفيض الشعوري؛ وأدخل في صلب الموضوع مباشرة وهو ما أثارته هذه «الندوة» من فيض الذكريات والمحبة والمعرفة التي نهلنا منها وأفدنا وتعلمنا فوق ما كنت أنتظر وأتوقع الكثير والكثير والكثير! الكثير عن جوانب شخصية من حياة وسيرة الأستاذ الجليل والمؤرخ الكبير والعالم الأكاديمي والإنسان صاحب الحس والشعور والمسئولية المرحوم قاسم عبده قاسم رائد مدرسة كبيرة وأصيلة وحقيقية في الكتابة التاريخية بروافدها المتعددة وضمن دوائرها المتباينة والمتداخلة وعلى كل المستويات..

أفدت الكثير جدا من الإضاءات المهمة حول بعض نشاط الدكتور قاسم في المراجعة التاريخية للدراما التليفزيونية، وأدواره المهمة والحاسمة في هذه الدائرة. عرفت موقعه من أجيال الأساتذة الكبار والأكاديميين المصريين من الجيل الثاني والثالث في تاريخ الجامعة. واستدعيت فيضا من الذكريات الخاصة والقراءات الخصبة الدقيقة في رحلة تعرفي ونهمي لقراءة كل ما خطه الدكتور قاسم منذ كنت في الثانية عشرة من عمري وحتى الآن!

وإذا استخدمنا لغة البلاغيين القدامى فقد آن أوان التفصيل بعد الإجمال؛ وأقول: في السابعة مساء الأربعاء الماضي بقصر ثقافة أكتوبر (الحي السابع) تشرفت بالمشاركة في الاحتفالية التي نظمتها هيئة قصور الثقافة بمرور 4 سنوات على رحيل المؤرخ القدير والمثقف الكبير الدكتور قاسم عبده قاسم، عليه رحمة الله.

منذ رحيله قبل أربع سنوات لم يحظ الدكتور قاسم بأي اهتمام ولا احتفاء حقيقي يليق به، وبقيمته وإنجازه رغم افتقادنا لقيمة «المؤرخ» الموسوعي، والأستاذ الجامعي الجليل المنخرط في قضايا وهموم مجتمعه، وحاجتنا إلى هذا النموذج الفكري والثقافي والإنساني وضرورته في هذه الفترة من تاريخها التي نحياها الآن.

لم يُنظم مؤتمر واحد على شرفه، ولم تتذكره أقسام التاريخ في جامعاتنا المحترمة على كثرتها والهيئات والمؤسسات المعنية بالتاريخ وتفرعاته، لم يحظ بندوة تعريفية واحدة أو بإضاءة كاشفة أو إطلالة مسحية على ما قدم!! وكأنه مر مرور الكرام ولم يترك وراءه مكتبة مذهلة من الأعمال والكتب والمؤلفات والمترجمات عدا ما يصعب حصره وتحديده من المقالات والدراسات التي لم تجمع بين دفتي كتاب حتى الآن.

المؤرّخ الذي صار مؤسسة

يكاد الدكتور قاسم عبده قاسم (1942-2021) أن يكون أغزر مؤرخ مصري وعربي إنتاجًا في نصف القرن الأخير، جمع بين التأليف والترجمة والنشر والمراجعة التاريخية، وكل أشكال الكتابة التاريخية والثقافية الموجهة للجمهور المتخصص وغير المتخصص على السواء، فضلا على نشاطه الاجتماعي والسياسي والتثقيفي وهي أدوار مارسها بامتياز وكان مؤثرا غاية التأثير، وصاحب هذه السطور واحد ممن تأثروا بشدة بنشاط الدكتور قاسم في هذه الدوائر على تنوعها وتعددها وتداخلها. وأعماله التاريخية الكبرى في التأريخ لمصر منذ دخولها الإسلام في القرن السابع الميلادي وتعريبها في القرون التالية، وحتى العصر الحديث، لا نظير لها في جودتها وسلاستها، وغزارة مادتها وإحكام منهجها.

وللحديث عما قدَّم من جهد مذهل على كل المستويات (كتابة وتأليفا وترجمة ومحاضرة ومشاركة في المجال العام، إلخ) سنحتاج إلى كتب كاملة، وليس مقالين أو ثلاثة أو حتى عشرة! أعود إلى الندوة الاحتفالية بالذكرى الرابعة لرحيله؛ التي اجتمع فيها أفراد أسرته (زوجته الفنانة الدكتورة منى العيسوي وابنته المعيدة بكلية الاتصالات والمعلومات فرح قاسم)، وأصدقاؤه وتلاميذه وعارفو قدره، اجتمعوا جميعا للالتفاف حول هذه القيمة التي نحتاجها ونحتاج إلى نتمسك بما مثلته ودعت إليه طوال حياتها من نضال فكري وعلمي وتاريخي وثقافي واجتماعي وإنساني.

شهاداتٌ تُضيء المسيرة

أربعة متحدثين كانوا على المنصة؛ كان أولهم حديثًا الكاتب والسيناريست القدير محمد السيد عيد الذي ربطته صداقة قوية ومتينة بالراحل الكريم امتدت لما يزيد على الثلاثين عاما؛ أما الثاني فكان تلميذا وصديقا ومزاملًا للدكتور قاسم بفارق غير كبير في العمر بينهما، وإن كان الدكتور قاسم أكبر بسنوات، وهو الأستاذ الدكتور عماد أبو غازي أستاذ التاريخ والوثائق بكلية الآداب جامعة القاهرة، ووزير الثقافة المصري الأسبق. وكانت مداخلته شديدة الأهمية والقيمة وسأتحدث عنها تفصيلا.

وجاء التلميذ الأهم والابن الروحي للدكتور قاسم، ووريثه العلمي والأكاديمي (والإنساني أيضًا) بجامعة الزقازيق والجامعات العربية، الأستاذ الدكتور حاتم الطحاوي أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق، وصاحب التاريخ العلمي المشرف والوافر والعامر بجلائل الأعمال. أما صاحب هذه السطور فكان آخر المتحدثين الرئيسيين على المنصة؛ وقد استعرض بعضًا مما ربطه بالدكتور قاسم من محبة وتعلم وتتلمذ وقراءة واعية ودقيقة لمشروعه الكبير؛ وقد كتب عنه ما يؤلف كتابا كاملا!

لأهمية ما قيل وضرورته كان لا بد من توثيق مكثف ودقيق وواف للإضاءات والجوانب التي كانت تكشف أو تعرض للمرة الأولى عن الدكتور قاسم على المستويين الشخصي (الذاتي) والعملي (العلمي والأكاديمي والثقافي العام). وكان بعض ما سمعته بأذني من الكاتب الكبير محمد السيد عيد جديدا تماما ومهما تماما ما يستدعي الكتابة عنه والتوثيق له هنا.

حكى الكاتب والسيناريست الكبير عن بداية معرفته بالدكتور قاسم عبده قاسم حينما عرض مسلسل «الزيني بركات» في تسعينيات القرن الماضي. «الزيني بركات» رواية الكاتب الكبير جمال الغيطاني، وكتب لها السيناريو والحوار والمعالجة التليفزيونية محمد السيد عيد، وقد عرض المسلسل في النصف الثاني من رمضان. فوجئ عيد والرواية على لسانه، بمقال منشور في مجلة «الهلال» موقعا بقلم الدكتور قاسم عبده قاسم يبدي فيه إعجابه الشديد بالمسلسل ويحلل من منظور المؤرخ المحترف نجاح المسلسل في إبراز الإطار التاريخي المرجعي الموثق لأحداث المسلسل وهي الفترة التي شهدت أفول المماليك وبداية حكم العثمانيين لمصر.

وقد توثقت العلاقة بين الكاتب والسيناريست من ناحية والمؤرخ والأكاديمي من ناحية، وتوجت بالتعاون بينهما في أعمال درامية تالية قام فيها الدكتور قاسم عبده قاسم بالمراجعة التاريخية والتوثيق التاريخي لأعمال مهمة منها مثلا مسلسل «هارون الرشيد» الذي كتبه الراحل عبد السلام أمين وأخرجه أحمد توفيق.

كانت هذه المعلومات جديدة تماما بالنسبة لي وتمثل جانبا مهما من جوانب السيرة الشخصية والعملية للمرحوم الدكتور قاسم عبده قاسم وخاصة نشاطه العارم والواسع في الشأن الثقافي والمجال العام خارج أسوار الجامعة، وهو دور يشهد به وبقيمته القاصي والداني خصوصا أن الدكتور قاسم قد صار بالفعل وبواقع أعماله ومجهوداته وإنجازاته مؤسسة ثقافية كاملة وشاملة تسير على قدمين. وأوضح السيد عيد في مداخلته القيمة خصوبة وثراء تلك المرحلة في التعاون بينهما، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة.

ومن مظاهر التعاون المثمر العميق بينهما في مجال النشر، كشف محمد السيد عيد، وللمرة الأولى، أن أهم إنتاج قدمه الدكتور قاسم في تلك الفترة من خلال إصدارات هيئة قصور الثقافة كانت في هذه السنوات بمبادرة وتشجيع من الكاتب والسيناريست الكبير. نشر الدكتور قاسم كتابه «التسامح» في سلسلة المفاهيم الموجهة للشباب، وشارك في تأليف كتاب جماعي قيم بعنوان «في موكب النور ـ عندما دخلت مصر في دين الله» بمناسبة مرور أربعة عشر قرنا على دخول الإسلام مصر. كما نشر كتابه التاريخي التعليمي المدخلي الرائع «كفاحنا ضد الغزاة» وأعاد نشر عدد من كتبه الممتازة عن تاريخ المماليك منها كتاب «أسواق مصر في عهد سلاطين المماليك» وغيرها من كتب الدكتور قاسم المرجعية الممتازة.

كانت هذه المداخلة/ الشهادة بمثابة إضاءة جديدة ومكثفة على جانب إنساني وعملي في حياة الدكتور قاسم تتمثل في الانخراط المخلص والأمين والصادق في الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والإبداعية؛ بالكتابة الواعية الراصدة المشيرة إلى مواطن الخلل وطرح الأسئلة والبحث عن حلول، والإسهام في التأطير التاريخي والتوثيقي للدراما إيمانا بأدوارها التثقيفية الكبرى واتساع دوائر تأثيرها.. (وللحديث بقية)

# معرفة # تاريخ # شخصيات

من ذاكرة القراءة الأولى: مطالعات خارج السياق!
رحلة إلى البرازيل: تاريخ السكان الأصليين
العرب والسادس من أكتوبر

معرفة